في زمن صار فيه التعليم في صدارة الاهتمامات الوطنية وصارت المدرسة العمومية موضوع اسئلة حارقة حول الجودة والانصاف والافاق برز اسم عبد اللطيف شوقي كأحد الوجوه الجديدة على راس الاكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة مراكش أسفي، لكن برصيد قديم في الميدان، وتجربة متراكمة في تدبير المديريات الاقليمية.
في 10 يوليوز 2025 صادق مجلس الحكومة على تعيينه مديرا للاكاديمية الجهوية، طبقا للفصل 92 من الدستور، خلفا للمدير السابق مولاي احمد الكريمي الدي قاد الاكاديمية لسنوات. وفي 20 يوليوز 2025 ترأس وزير التربية الوطنية والتعليم الاولي والرياضة محمد سعد برادة حفل تنصيبه بمراكش مؤكدا في كلمته ان الاختيار وقع على اطار تربوي واداري متمرس راكم تجربة مهمة في تدبير المنظومة على مستوى المديريات الاقليمية، وان الدولة تعول عليه في تنزيل الاصلاح على مستوى الجهة.
منذ ذلك التاريخ لم يتعامل شوقي مع المنصب كواجهة بروتوكولية، بل كمسؤولية ثقيلة في لحظة دقيقة: جهة واسعة، زلزال ترك ندوبا عميقة في البنيات المدرسية، خارطة طريق وطنية ذات اهداف طموحة، وراي عام جهوي ومحلي يتابع بعين ناقدة. هذه الورقة تحاول، انطلاقا من بحث وتتبع لما نشر رسميا واعلاميا، ان ترصد ملامح سياسته التدبيرية على المستويات التربوية والادارية والمالية والمادية، وان تقدم صورة عن رجل ثقة معول عليه في مرحلة مفصلية.
اولا من المسار الميداني الى قيادة الجهة
قبل ان يصل الى مراكش اسفي، قضى عبد اللطيف شوقي سنوات مدير اقليمي في اكثر من منطقة، من بينها البرنوصي، الجديدة وابن مسيك، كما تشير الى ذلك تعييناته السابقة التي حضيت باهتمام كل متتبع للشان التعليمي
هذه التجارب المتنوعة، بين احياء حضرية مكتظة ومجالات قروية وساحلية، جعلته يلمس عن قرب:
ضغط الاعداد على البنيات التحتية
تعقيدات تدبير الموارد البشرية
حساسية العلاقة مع الشركاء والجماعات الترابية
اهمية التوجيه والحياة المدرسية في مصير المتعلمين
لذلك، حين صعد الى مستوى الاكاديمية، لم يدخل اليها بعيون الغريب عن الواقع، بل بذاكرة مملوءة بملفات الهدر، والاقسام المشتركة، والداخليات، وحاجات الاسر. وهو ما يفسر سرعة دخوله في صلب الملفات مباشرة بعد تعيينه.
ثانيا سياسة تدبيرية برؤية شمولية
منذ الاسابيع الاولى، اعطى شوقي اشارات واضحة حول نمط تدبيره: رؤية شمولية تمسك بخيط واحد يربط بين التربوي والاداري والمالي والمادي، تحت سقف واحد هو “مدرسة عمومية ذات جودة للجميع”، وهو الشعار الذي رافق اجتماعه التنسيقي الاول مع المديرين الاقليميين في شتنبر 2025 بمقر الاكاديمية، بحضور رؤساء الاقسام والمدير الجهوي للوكالة الوطنية للتجهيزات العمومية.
الاجتماع خصص لتتبع مختلف العمليات المرتبطة بالدخول المدرسي 2025 ـ 2026، ومواصلة تنفيذ البرامج الاجرائية لخارطة الطريق 2022 ـ 2026. وهذا في حد ذاته مؤشر على اسلوب عمل يقوم على:
التنسيق القوي مع المديريات الاقليمية
الربط بين التخطيط التربوي والتجهيزات العمومية
تتبع العمليات على مستوى التنفيذ، لا الاكتفاء بارسال المذكرات
ثالثا التدبير التربوي التجديد في الممارسات وترسيخ ثقافة الجودة
على المستوى التربوي، اختار شوقي ان تكون بوابة الاصلاح هي تجديد الممارسة داخل القسم، لا الخطاب من خارجه.
1. التدريس الصريح والمدارس الرائدة
الاكاديمية نظمت، في عهد المدير الجديد، دورة تكوينية جهوية حول “مقاربة التدريس الصريح” بمركز المنتديات التابع لجامعة القاضي عياض، لفائدة الاطر التربوية، في سياق تفعيل مشاريع “اعداديات الريادة” بجهة مراكش اسفي.
التدريس الصريح كمدخل بيداغوجي يركز على:
توضيح الاهداف للتلميذ
تقديم التعلمات بشكل متدرج
استعمال امثلة ونماذج قبل الانتقال الى الاستقلالية
اعتماد تقويمات قصيرة مستمرة
في المدرسة الرائدة، لا يكتفي شوقي بدعم الشعار، بل يواكب تكوين الاطر التي ستجعل من هذه المدارس نماذج فعلية، من خلال فرق من المفتشين والمكونين، في انسجام مع التصور الوطني الذي يمنح لهذه المؤسسات دور المختبر التربوي.
2. التربية الدامجة والبحث التربوي
في 30 اكتوبر 2025، نظمت الاكاديمية لقاء جهويا لتقاسم “دلائل البحوث التربوية في مجال التربية الدامجة”، بمشاركة اطر التفتيش والتكوين ومنسقي التربية الدامجة وممثلي المؤسسات الرائدة، في فضاء جامعة القاضي عياض
الرسالة هنا مزدوجة:
الادماج ليس شعارا حقوقيا فقط، بل ممارسة تحتاج الى دلائل وبحوث وتجارب
والاكاديمية ليست جهاز تنفيذ صامت، بل فاعل يتحاور مع الجامعة ويستثمر انتاجها العلمي
في الاتجاه نفسه، اختار عدد من الباحثين والباحثات في بعض الكليات ، اهداء بحوث تخرجهم واعمالهم العلمية الى مدير الاكاديمية الجهوية بمراكش اسفي، في التفاتات رمزية تعكس ما يبادلونه له من تقدير، وتؤشر على بداية تشكل علاقة ثقة وتعاون بين الجامعة والقيادة الجهوية، وعلى ما يلمسونه من جدية في مسار الاكاديمية نحو ترسيخ ثقافة الجودة والبحث التربوي.
رابعا التدبير الاداري والموارد البشرية حكامة الفرص وتثمين الكفاءات
على مستوى التدبير الاداري والموارد البشرية، سجلت المرحلة الاولى من تدبير عبد اللطيف شوقي عددا من الخطوات الدالة على توجه واضح نحو الشفافية وتثمين الكفاءات.
1. فتح مناصب المسؤولية للتباري
في اكتوبر 2025، فتح مدير الاكاديمية باب التباري على اربعة مناصب مسؤولية شاغرة داخل الاكاديمية، شارك فيها 74 مترشحة ومترشحا من الاطر العاملة بالاكاديمية والمديريات التابعة لها، .
هذه الخطوة تعكس ثلاث رسائل اساسية:
نهاية منطق التكاليف غير المعلل في المناصب الحساسة
اعتماد التنافس والاستحقاق كقاعدة لاختيار المسؤولين
ارسال اشارة ايجابية للطاقات الشابة داخل الجهة بان باب الترقية مفتوح وفق مسار مهني واضح
2. تنظيم الحركات والامتحانات المهنية
الاكاديمية واكبت بدقة نشر نتائج الحركة الانتقالية الجهوية 2025 لهيئة التدريس، عبر صفحتها الرسمية، مع توفير روابط مفصلة لكل سلك تعليمي، في خطوة تعزز الشفافية في التعامل مع ملف حساس لدى نساء ورجال التعليم
كما عملت على نشر لوائح المترشحات والمترشحين المدعوين لاجتياز الاختبارات الكتابية لمباريات ولوج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بما يضمن الحق في المعلومة للراغبين في الولوج الى مهن الإدارة و التدريس
هذه الممارسات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تشكل جزءا من ثقافة ادارية جديدة مبنية على الوضوح والانصاف في تدبير المسارات المهنية داخل الجهة.
خامسا التدبير المالي والمادي ربط الميزانية بالنتائج والبنيات
الاصلاح لا يتحقق بدون مال عام مدبر بشكل رشيد، وهنا تظهر لمسة عبد اللطيف شوقي في ربط التدبير المالي بالمشاريع الملموسة.
1. عقود نجاعة الاداء والميزانية الموجهة للنتائج
المجلس الاداري للاكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة مراكش اسفي صادق، نهاية 2024، على عقد نجاعة الاداء بين الوزارة والاكاديمية برسم السنة المالية 2025، وهو اطار تعاقدي يربط الاعتمادات المالية باهداف محددة ومؤشرات قياس واضحة، في انسجام مع مشروع نجاعة الاداء المعتمد في قانون المالية.
ورغم ان توقيع العقود كان في عهد المدير السابق، فان تفعيلها اليوم يوجد في صلب مسؤولية المدير الحالي، الذي يتحرك ضمن منطق:
ميزانية مرتبطة بمشاريع محددة (البنيات، الدعم الاجتماعي، التجهيز، التكوين..)
مؤشرات لقياس التقدم سنويا
مساءلة امام المجلس الاداري والوزارة عن مستوى تحقيق الاهداف
تقرير “مشروع نجاعة الاداء لقطاع التربية الوطنية” لسنة 2025 يشير الى ان جهة مراكش اسفي تتوفر على اعتمادات هامة موجهة للبنيات والتجهيز والدعم الاجتماعي، ويتم تحيين عقد نجاعة الاداء سنويا بناء على هذه الاعتمادات، ما يفرض على القيادة الجهوية تدبيرا دقيقا وربط كل درهم بهدف واضح.
2. شراكة مع الوكالة الوطنية للتجهيزات العمومية
حضور المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتجهيزات العمومية في الاجتماع الذي ترأسه شوقي حول الدخول المدرسي، ليس تفصيلا بروتوكوليا، بل دليل على وعي بان ملفات البنايات، والداخليات، والاصلاحات، تحتاج الى تنسيق مباشر مع الفاعل الوطني المكلف بالتجهيزات.
بهذا، يتحول التدبير المالي والمادي من مجرد صرف اعتمادات متفرقة الى تخطيط استثماري مندمج، يتتبع مسار المشروع من ورقة البرمجة الى ورش البناء.
سادسا اعادة تاهيل البنيات بعد زلزال الحوز حضور ميداني لا يكتفي بالتقارير
احد اهم العناوين التي لصقت باسم عبد اللطيف شوقي منذ تعيينه، حضوره القوي في ملف ما بعد زلزال الحوز، الذي الحق اضرارا كبيرة بعدد من المؤسسات التعليمية في الجهة.
في 17 اكتوبر 2025، قام مدير الاكاديمية بزيارة ميدانية لاقليم شيشاوة، رفقة مسؤولين جهويين واقليميين، للوقوف على تقدم اشغال اعادة بناء وتاهيل المؤسسات التعليمية المتضررة جراء الزلزال، كما نقلت ذلك اكاديمية مراكش اسفي في صفحتها الرسمية، وعدة منابر اعلامية جهوية.
الزيارة شملت عددا من الجماعات القروية، حيث عاين شوقي الاوراش المفتوحة، واستمع لعرض التقنيين والمقاولات، ووقف على الحلول المرحلية التي تتيح استمرار الدراسة في فضاءات بديلة او حجرات جاهزة.
قبل ذلك، كان قد واكب ملف المؤسسات المتضررة في اقليم الحوز، في سياق عام يجعل من “ضمان حق التمدرس بعد الكارثة” عنوانا مركزيا لعمل الاكاديمية.
هذا النوع من الزيارات يعطي لنمط تدبيره معنى واضحا:
المسؤول لا يكتفي بقراءة التقارير في مكتبه
بل ينزل الى الميدان ليرى الواقع كما هو
ويربط قراراته المالية والتقنية بما يعاينه ميدانيا
سابعا فضاءات الاستقبال وثقافة مشروع المؤسسة
الى جانب الاوراش الكبرى، تعطي الطريقة التي يتحدث بها شوقي عن “مشروع المؤسسة” و”فضاءات الاستقبال” فكرة عن اهتمامه بجودة التفاصيل.
مشروع المؤسسة، في تصور الاكاديمية، لم يعد وثيقة شكلية، بل الية لتجميع كل مبادرات المؤسسة التربوية والادارية والمالية والشراكات في اطار واحد، وهو ما تشتغل عليه فرق التاطير عبر لقاءات جهوية ومحلية، تروم جعل كل مؤسسة تملك مشروعها الخاص المبني على تشخيص دقيق.
فضاءات الاستقبال، سواء بالاكاديمية او المديريات او المؤسسات، تقدم في البلاغات الرسمية كمكون من مكونات تحسين علاقة الادارة بالمرتفق، من خلال:
تهيئة مكاتب الاستقبال
توحيد مسارات الخدمات
توفير المعلومات بشكل واضح للأسر والاساتذة والتلاميذ
هذه العناصر، وان بدت ادارية، تسهم في بناء ثقة بين المواطنين والادارة التربوية، وتمنح صورة عن مدرسة اكثر انفتاحا واحتراما لزوارها.
ثامنا الانفتاح على الفاعلين وبناء شبكة ثقة
سياسته التدبيرية لا تقف عند جدران الاكاديمية، بل تمتد الى محيطها المؤسساتي والمجتمعي:
اجتماعات منتظمة مع المديرين الاقليميين ورؤساء الاقسام والمصالح، حسب ما توثقه المنابر المحلية.
علاقات مفتوحة مع الجامعة والباحثين التربويين، كما يظهر في لقاءات التربية الدامجة وهدية بحث التخرج.
تنسيق مع الوكالة الوطنية للتجهيزات العمومية في ملف البنايات.
هذا الانفتاح يجعل من الاكاديمية فاعلا ضمن شبكة اوسع، لا جهازا منعزلا، ويمنح لقراراتها قوة اكبر بحكم استنادها الى تشاور وتعاقدات متعددة الاطراف.
تاسعا عقود النجاعة ومنطق النتائج
ضمن دينامية الاصلاح المالي والاداري على المستوى الوطني، تشكل عقود نجاعة الاداء بين الوزارة والاكاديميات الالية المركزية لربط الميزانية بالنتائج.
توقيع عقود نجاعة الاداء مع مديري الاكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، الذي اشرف عليه الوزير شكيب بنموسى سنة 2024، وضع اكاديمية مراكش اسفي ضمن تجارب قيادية في هذا المجال، كما اشارت الى ذلك تقارير اعلامية ومالية.
اليوم، مع تولي عبد اللطيف شوقي، يصبح تنزيل هذه العقود واجبا يوميا، من خلال:
ترجمة المؤشرات المتفق عليها الى مشاريع عمل جهوية
مطالبة المديريات الاقليمية بدورها بعقود محلية للنجاعة
تتبع نسبة الانجاز ورفع التقارير للمجلس الاداري والوزارة
بهذا، ينتقل الخطاب من مستوى “النوايا الحسنة” الى مستوى “ثقافة النتائج”، حيث يمكن مساءلة الادارة على ما تحقق وما لم يتحقق.
خاتمة رجل ميدان ورجل دفتر تحملات في الوقت نفسه
من خلال تتبع مسار عبد اللطيف شوقي خلال الاشهر التي تلت تعيينه، يتضح اننا امام نموذج لمسؤول جهوية يحاول الجمع بين امرين قلما يلتقيان:
روح رجل الميدان الذي يزور الاوراش ويجالس الاطر والتلاميذ في المؤسسات المتضررة من الزلزال، ويتابع الدخول المدرسي عن قرب
ودقة رجل دفتر التحملات الذي يشتغل في اطار عقود نجاعة الاداء، وبرمجة صفقات، وميزانيات موجهة، ومساطر للتباري على المناصب، وحركات انتقالية مؤطرة
سياسته التدبيرية، كما تعكسها الوقائع والبلاغات واللقاءات، تقوم على رؤية تعتبر ان الاصلاح الحقيقي لا يكون بتغيير الخطاب، بل بالاشتغال المتوازي على:
القسم والتعلم
البناية والتجهيز
الموارد البشرية والحكامة
الميزانية والنتائج
واذا كانت جهة مراكش اسفي توجد اليوم في قلب رهانات كبرى، من مداواة الجراح الصامتة التي خلفها الزلزال، الى توسيع دائرة المدرسة الرائدة، وتعزيز جاذبية الحياة المدرسية، فان وجود اطار من طينة عبد اللطيف شوقي على راس الاكاديمية يقدم اشارة واضحة على ان الدولة اختارت ان تراهن على خبرة ميدانية راكمت التجربة في اكثر من سياق، وان تجعل من القيادة الجهوية رافعة حقيقية لتنزيل الاصلاح لا مجرد حلقة ادارية في السلسلة.
هذا المسار، الذي لا يزال في طور التشكل، لا يقدم نفسه كمجرد استمرارية تقنية، بل كدينامية جديدة تعيد شحن اوراش الجهة بطاقة مختلفة، تجعل من المدرسة العمومية بجهة مراكش اسفي فضاء مرشحا، في المستقبل القريب، لان يكون نموذجا وطنيا في جودة التعلمات، وحكامة الموارد، وتكامل الادوار بين الدولة والجامعة والجماعات الترابية ومختلف الشركاء، في افق مدرسة مغربية واثقة بنفسها وبما تتيحه لابنائها من افاق.


















تعليقات الزوار ( 0 )