بتعاون مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، نظمت جمعية ذاكرة أسفي والكلية متعددة التخصصات وائتلاف ذاكرة المغرب، يوما دراسيا يوم 17 يونيو 2023 بقاعة الندوات بالكلية متعددة التخصصات بأسفي، حول موضوع: “أي دور للمجتمع المدني في تنزيل رؤية صاحب الجلالة الملك محمد السادس للحفاظ على التراث وتثمينه”
وتعميما للفائدة ، نقدم للقراء الكرام العرض الذي تقدم به الأستاذ الدكتور منير البصكري.
دور المجتمع المدني في تنزيل الرؤية الملكية لتثمين التراث: جمعية ذاكرة أسفي أنموذجا
تسعى هذه المساهمة التعرف إلى مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في صون التراث وحمايته، باعتباره فاعلا أساسيا مع الدولة .. وقد انطلقنا من التساؤل التالي:
ماهي إسهامات المجتمع المدني في الحفاظ على التراث في الوسط الحضري؟ وأي دور تلعبه فعاليات وجمعيات المجتمع المدني في الحفاظ على التراث ، وما أهميتها في خدمته؟ وانطلاقا من هذه التساؤلات، قمنا بوضع فرضيتين متمثلة في:
1 ـ مساهمة مؤسسات المجتمع المدني في القيام بحملات توعية حول حماية التراث.
2 . مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في جهود صيانة وإعادة تأهيل التراث.
فلا مجال للشك للدور الذي يلعبه المجتمع المدني في خدمة وحماية التراث، من أجل إعطائه إشعاعا باعتباره رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياحية والتاريخية. فغير خاف أن دستور 2011، قد أعطاها أهمية كبيرة باعتبارها قاطرة توعوية تحسيسية في ربط إيجابيات الحاضر بالماضي مع شحذ الوعي بأوجه التراث المادي واللامادي، مع تبيان قيمته المضافة في ترسيخ قيم المواطنة والهوية والانتماء.
ولعل هذا اليوم الدراسي، فرصة للوقوف عند الجهود التي تبذلها جمعيات المجتمع المدني الناشطة في مجال حماية التراث، لآجل إعادة الاعتبار لمدننا العتيقة بالدرجة الأولى، حتى يعود إليها ألقها ومجدها ، مما يتطلب المزيد من البحث عن الآليات الكفيلة بتنزيل الرؤية الملكية لتثمين التراث من جهة، وتنزيل رؤية استشرافية تضع هذه المدن على سكة قطار التنمية المستدامة.
نعم، سمعنا عن الكثير من المبادرات والمشاريع التنموية الهادفة إلى إعادة المدينة المغربية العتيقة لوهجها الثقافي والاقتصادي والتنموي .. وهذا مهم جدا، سيساعد كثيرا على إعادة الدينامية لهذه المدينة والنهوض بتراثها في سياق محمل بعبق التاريخ والتراث، وضمان استدامة مآثرها التاريخية . والمدينة العتيقة بأسفي المعتدة بذاكرة تغوص في تاريخ ضارب في العراقة، وإشعاع حضاري متواصل، يشهد لأهلها بتشبثهم بنمط حياة خاص..
تشتهر بتعدد معالمها الأثرية ، بما في ذلك دورها المشيدة على نمط الفن المعماري الإسلامي الأندلسي ، ومدارسها العتيقة، وأضرحتها ومساجدها وزواياها وأسوارها سواء ما تبقى منها منذ العهد الموحدي ، أو تلك التي شيدها البرتغاليون منذ القرن السادس عشر والتي يبلغ طولها 1600 مترا ، إضافة إلى أبراجها وأبوابها وورشات عمل خزفية فنية تقليدية. وكلها معالم تاريخية وعمرانية لها أهمية كبيرة على الصعيد المعماري والفني. فهي إذن فضاء للفن والثقافة والروحانية. وهذه الفضاءات السالفة الذكر ، يمكن أن تساعد على خلق فرص للعمل ، كما يمكن أن تضخ إيراداتها في عمليات الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي للمدينة العتيقة بأسفي. (وهذا ما جسدته الرؤية الملكية لتثمين التراث من خلال الرسالة الملكية على هامش الدورة السابعة عشرة للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي اللامادي، حيث يقول جلالة الملك محمد السادس نصره الله : ” ولا تفوتنا الفرصة هنا ، للتذكير بأنه من أجل رفع التحديات العديدة التي تواجه الحفاظ على الموروث الثقافي ، يتعين على الجميع دعم كافة الجهود المبذولة في مجال النهوض بالبحوث العلمية وتشجيع الباحثين والمهتمين بحماية مكتسباتنا التراثية .. ” فبضل هذه الرؤية الملكية المتبصرة في مجال حماية وتثمين المدن العتيقة من أجل الحفاظ على إشعاعها والتي أضحت دعامة حقيقية لتأهيل المدن العتيقة )، نرى ضرورة قيام جمعيات المجتمع المدني بدورها في وضع استراتيجية محددة لحماية التراث الثقافي والتاريخي لمدننا العتيقة ، ومواجهة الهشاشة لهذا التراث سواء المادي واللامادي . وهذا يتطلب التفكير بجدية في سبيل العمل على تأسيس وعي جديد بالثروات التراثية التي من شأنها أن تساهم في الحفاظ عليها .. بالشراكة والتعاون والتواصل مع الجهات ذات الاختصاص .
لذلك ، مناط بهذه الجمعيات أن تلعب دورا مهما في الحفاظ على التراث الثقافي وحمايته.
ولعل الموقف من أهمية هذا التراث ، لا تنبع فقط من كونه الوعاء الكبير الذي يعتبر الناقل الأساس للحضارة عبر الأجيال ، بل يقترن بموضوع الهوية ، لأن التراث يمثل معطى حركيا يعبر عن المراحل التي تعاقبت على ذاكرة وتاريخ مدننا العتيقة ، وهو ما أكدت عليه الرسالة الملكية السامية ، إذ يقول صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله : ” ندعو للبحث عن أنجع السبل لتربية الناشئة على أهمية تراثنا والاهتمام به كإرث بشري غني بروافده الثقافية المتعددة ، وروابطه التاريخية الضاربة في عمق التاريخ . ” من هذا المنطلق ، انخرطت جمعية ذاكرة أسفي للمساهمة بتجربتها في مجال حماية التراث والمساهمة كذلك في تنزيل الرؤية الملكية لتثمين التراث ، وانسجاما أيضا مع أهداف النموذج التنموي . فهذه الجمعية ، ساهمت بشكل محوري في البحث عن السبل الكفيلة بحماية تراث المدينة والمحافظة عليه ، فضلا عن السعي إلى إغناء رصيدها من التراث الثقافي المغمور .. فكان من أهدافها تحصين التراث الثقافي للمدينة والنهوض بعناصره الحضارية ، والتنبيه من القصور في التعامل مع المآثر التاريخية والحضارية والإنتاجات الفكرية .. إضافة إلى دعواتها المتكررة لإعادة وتأهيل المباني التراثية العمرانية للاستفادة من مزاياها في الاستخدامات السكنية والسياحية والثقافية ، وهو استخدام سيساهم ـ لا محالة ـ في إعادة توزيع المردود الاقتصادي للاستثمار في موارد التراث بشكل أكثر عدالة . ومن ثمة ، ترى جمعية ذاكرة أسفي أنه لا بد من تكثيف الجهود من أجل رؤية مستقبلية في أفق استراتيجية تسعى إلى إقلاع تنموي للمدينة العتيقة بأسفي يعزز تنافسيتها مع باقي المدن المغربية العتيقة الأخرى .
إن حصيلة عمل جمعية ذاكرة أسفي منذ تأسيسها عام 2013، تميزت برصيد محترم من الأعمال الجليلة بغية الحفاظ على تراث مدينة أسفي المادي واللامادي ، وذلك على الرغم من جائحة كوفيد 19 ، حيث حرصت الجمعية في ظل هذا الظرف الاستثنائي على مواصلة عملها في الترافع عن تثمين تراث المدينة وحماية ذاكرتها وصون معالمها التاريخية . في هذا السياق ، قدمت الجمعية يوم 05 نونبر 2020 مذكرة حول موقع أسفي في النموذج التنموي إلى السيد شكيب بنموسى رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ، وذلك بهدف تحسين العرض التنموي بكل أبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية بمدينة أسفي التي تعتبر قطبا أساسيا داخل تراب جهة مراكش أسفي . وتثمينا للتراث اللامادي لهذه المدينة ، قامت الجمعية بتخليد الذكرى الخمسينية لرحلة راع 02 يوم 21 ماي 2021 واستصدار طابع بريدي بالمناسبة ، كان ذلك بحضور السيدة سفيرة النرويج والقنصل العام بها ، مع تكريم السيدين المدني آيت أوهني المغربي الوحيد المشارك في هذه الرحلة البحرية ، وعبد القادر تيمول الباحث في علم المحيطات . وتقديرا من جمعية ذاكرة أسفي للرصيد الوطني وللمكانة العلمية المتميزة التي كان يحظى بها العلامة سيدي عبد الرحيم الوزاني ، تم تكريم الفقيد يوم السبت 12 مارس 2022 وذلك بتنظيم حفل تأبيني قدمت خلاله العديد من الشهادات التي أشادت جميعها بمكانة الرجل العلمية والتربوية والفقهية والوطنية .
إلى جانب ما سبق ، قامت الجمعية بنشر إصدار جديد ضمن منشوراتها بعنوان : “أسفي ، التاريخ والحضارة وقضايا التنمية ” تنسيق الباحثة المقتدرة الدكتورة نفيسة الذهبي . كما استضافت الجمعية ائتلاف ذاكرة المغرب يوم السبت 21 ماي 2022 .. وقد شكل هذا باللقاء فرصة لنقاش صريح حول التراث المادي واللامادي ببلادنا ومخرجات النموذج التنموي التي أكدت على أهمية العمق التاريخي للمغرب بتراثه المتنوع والغني . ولم يفت الائتلاف الإشارة إلى الوضعية المأساوية التي تعيشها مدينة أسفي ، وحالات الإهمال الكبير التي تعرفها معالمها التاريخية ونسيجها العمراني الآيل للسقوط والتي وقف عليها أعضاء الائتلاف أثناء زيارتهم الميدانية للمدينة العتيقة بأسفي .(وفي السياق ذاته ، طالبت جمعية ذاكرة أسفي في بيان لها يوم 18 شتنبر 2022 بتوقيف البناية التي قامت مقاولة خاصة بتشييدها بدون ترخيص بساحة الاستقلال جوار قصر البحر ، المعلمة البرتغالية المصنفة كتراث وطني بمقتضى الظهير السلطاني الصادر بتاريخ 07 نونبر 1922 ، وهو ما اعتبرته الجمعية مخالف للقانون المنظم والخاص بالمحافظة على المباني التاريخية . وفعلا ، تدخلت السلطات العمومية وقامت بهدم البناية التي كانت في طور البناء بجوار قصر البحر) .
وفي إطار المحافظة على التراث المادي واللامادي لمدينة أسفي ، اعترضت جمعية ذاكرة أسفي عن قرار هدم البيت الذي ولد فيه الكاتب المغربي ادمون عمران المالح سنة 1917 ، الكائن بزنقة النجارة بالمدينة العتيقة ، تقديرا للمكانة الاعتبارية لكاتب كبير أغنى بكتاباته الحقل الثقافي وطنيا ودوليا واستحضارا أيضا للقيمة الأركيولوجية والمعمارية لهذا البيت الذي يندرج ضمن تراث المعمار العبري المغربي .. حيث تراجعت السلطات المحلية بتدخل من وزير الداخلية عن قرار الهدم .
واعتبارا لتطلعات ساكنة مدينة أسفي بشكل ملح إلى رد الاعتبار لموروثها الحضاري والتاريخي الذي يعرف تدهورا خطيرا ، يتطلب تدخلا استعجاليا ، وجهت جمعية ذاكرة أسفي مراسلة إلى السيد وزير الشباب والثقافة والتواصل بتاريخ 12 أكتوبر 2022 تطالب من خلالها بالإسراع في تفعيل الاتفاقية المشتركة المتعلقة بالبرنامج الوطني لتأهيل وتثمين المدن العتيقة . وتكريسا لثقافة الاعتراف ، نظمت الجمعية حفلا تكريميا لبعض أعضائها ، مقدرة فيهم عملهم الدؤوب من أجل حماية تراث المدينة ، ويتعلق الأمر بالسادة عبد الله فرحات ومحمد الخزامي ومنير البصكري الفيلالي .
من جهة أخرى ، قامت الجمعية بعقد شراكات ابرمتها مع المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ، والكلية متعددة التخصصات بأسفي ،
وذلك في إطار فتح أفاق واعدة للتعاون المشترك .
مرة أخرى ، نشيد بتنظيم هذا اليوم الدراسي الذي نعتبره جميعا فرصة للتداول والتشاور وتلاقح أفكار المثقفين والخبراء والمنتخبين وصانعي القرار ، كل من موقعه ، لا بد من المساهمة في مهمة الحفاظ على تراثنا الأثيل تجاه مدننا العتيقة وبالأخص تجاه المدينة العتيقة لأسفي ذات الرأسمال التاريخي والتي تجسد بحق شاهدا على عبقرية المكان باعتباره إرثا حضاريا متميزا . فنحن مطالبون جميعا بتعزيز النسيج العتيق للمدينة القديمة بأسفي في إطار برنامج تأهيل المباني الآيلة للسقوط للحد من الأخطار البشرية والمادية , وهو برنامج حسب علمنا يتوزع على ثلاث مراحل :
ـ ترميم وإعادة إحياء التراث الثقافي والمآثر التاريخية .
ـ تعزيز الجاذبية السياحية والاقتصادية .
ـ إعادة تأهيل وتعزيز البنية التحتية وتحسين السكن بها .
ولعل استيفاء هذا البرنامج ، سيعيد ـ بلا شك ـ للمدينة العتيقة بأسفي ألقها وتوهجها بعل تنزيل الرؤية الملكية السامية التي تولي اهتماما كبيرا لتهيئة المدن العتيقة والحفاظ على تراثها العمراني الأصيل وتعزيز دورها الاقتصادي والاجتماعي والسياحي في انسجام تام مع متطلبات الاستدامة والمحافظة على البيئة .
تعليقات الزوار ( 0 )