الرئيسية اخبار آسفي ..مدينة الخزف وعاصمة السردين وفن العيطة

آسفي ..مدينة الخزف وعاصمة السردين وفن العيطة

كتبه كتب في 28 مارس 2022 - 10:26 ص

تبسط مدينة آسفي المغربية رونقها ممتدا كمثل «زربية» سجاد، مزركش بمختلف ألوان التاريخ والحداثة وبهاء الطلة ومد اليوميات، منبسطة هادئة تطل على المحيط الأطلسي، المتجول فيها لا يصاب بعياء المرتفعات فكلها أرض منخفضة تضاريسها لا يزيد ارتفاعها عن سطح البحر عن 500 متر.

قبل مدة سارع البعض إلى إعلان خبر تصنيف آسفي كمدينة عالمية للفخار (الطين والخزف) من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المعروفة اختصارا باليونيسكو، لكن الخبر وفق تصريحات مندوب قطاع الصناعة التقليدية أدلى بها لموقع إخباري مغربي، ليس صحيحا ولم يتم التصنيف بعد، وهو في طور الإعداد كمشروع يراد منه تثمين فخار المدينة.
الخبر صحيح أم لا، المهم أنه يحيل على ما يميز المدينة عن باقي المدن الأخرى وهي تخصصها في صناعة مشغولات الطين والخزف، ويكفي أن نذكر أنها تضم 300 ورشة لهذه الصناعة التقليدية الأصيلة، كما أن عدد العاملين في القطاع يبلغ حد ألفي عامل، وهذا الرقم قابل للزيادة حسب الفصول.
ولا ينفك لقب «عاصمة الفخار» يلتصق بمدينة آسفي، كل الصور الآتية من هناك لزوار وسياح مغاربة أو أجانب تلتقط مشاهد لمنتجات غاية في الإبهار، بين الصحون والأكواب والمزهريات وخلافه من ما جادت به أنامل الصانع التقليدي المسفيوي (نسبة إلى آسفي) تجعلك بالفعل تؤمن أنها عاصمة هذا النوع من الصناعة التقليدية، لا منافس إلا بعض الأحياء في مدن مغربية عتيقة أخرى مثل فاس ومكناس ومراكش وسلا أيضا، هذه الأخيرة التي خصصت بدورها مجمعا ضم بعض الحرفيين والصناع المهرة في جارة العاصمة الرباط.
إذا كان الحديث قد بدأ بما جدّ في مدينة آسفي، وهو خبر التصنيف الأممي، فإن نسج الكلام على شواطئها لا يبدأ من هناك، بل يتجاوز الوقت الحالي إلى قرون خلت، وقبل ذلك لنطل على المدينة عبر نظرة خاطفة، فهي إلى جانب كونها مدينة الفخار، فإن للسمك ـ خاصة السردين ـ نصيبا في شهرتها، لمَ لا، وهي «حاضرة المحيط» كما سماها ووصفها عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون.
آسفي ترفل في بهائها على ساحل المحيط الاطلسي، موقعها بالتحديد بين مدينتي الجديدة والصويرة، وتبعد عن مراكش 160 كلم، أما الدار البيضاء فتبعد عنها بما يقارب 200 كلم، المدينة كباقي المدن العتيقة المغربية لها نصيبها من المآثر التاريخية عبارة عن أسوار وقلاع وغيرهما.
من وجهة نظر معمارية، فإن مدينة آسفي هي المكان الذي تتجمع فيه مجموعة متنوعة من المباني معًا، مثل قصر البحر، وهو حصن من القرن السادس عشر، ودار السلطان، المقر السابق للملوك العلويين، وهو الآن متحف للخزف، بالإضافة إلى الكاتدرائية البرتغالية. وتوجد في المدينة العتيقة وزقاق السوق كذلك مجموعة من المباني التي استوحت هندستها المعمارية من مختلف الطوائف الدينية التي استقرت بها في تصاهر وتساكن وتعايش.

آسفي «العيطة» و«خربوشة»

العبور إلى مدينة آسفي من خلال جولة استطلاعية لا يمكن أن يشمل المناظر الطبيعية والمآثر التاريخية وحدها، بل يجب التوقف عند قبائل عبدة التي تشكل معظم ساكنة المدينة، وهي الصنو والند لقبائل دكالة بمدينة الجديدة، ذلك الصراع الذي يتخذ طابع الفكاهة في عدد من الحكايات، يضم في ثناياه تجاذبا قويا حول ريادة المنطقة، تلك سنّة القبائل كل واحدة بما لديها فرحة ومعتزة وترغب في أن تكون في القيادة ولا شيء غير ذلك، الفكاهة في وقت الحاضر حلت مكان التجاذب القوي، صار أبناء عبدة ودكالة من المحدثين يحكون قصصا ويتسامرون فيما بينهم بما جاد به تاريخ العلاقة بين عبدة ودكالة، لكن الأهم من ذلك كله انهم يتصاحبون ويسيرون في طريق الاعتزاز بمغربيتهم.
بالحديث عن عبدة يكون الحديث عن منطقة شهيرة بأشعار «العيطة» وهو فن أصيل يجد منافسه لدى دكالة.
ولعبدة رمزهم في هذا الفن وذلك الشعر العربي المدرّج بلكنة أهل آسفي، ذلك الرمز هو «خربوشة» شاعرة تغنت بالعيطة العبدية وثارت في وجه حاكم قبائل محلية اسمه القايد عيسى بنعمر، الذي كان في ذلك التاريخ يمثل السلطة والجبروت والظلم، وتلك حكاية لن تكفي كتب لجمع تفاصيلها، وقد كان لباحثين قصب السبق لدراستها وإصدار مؤلفات بشأنها، كما تابعها شعراء جدد بالبحث والتنقيب وسبر أغوار قصائد تلك المرأة الشامخة، حسب ما يصلنا من وقائع.
الحديث عن قصة «خربوشة» و«العيطة» يرسم امامنا هذه اللوحة، خيام منتصبة والنار مشتعلة في الوسط وتحلق حولها رجال ونساء القبيلة، ويقف القايد عيسى بنعمر في صدر المجمع وهو يتأمل «خربوشة» التي تصدح بأعلى صوتها الشجي تغني من أشعارها بألحان حزينة وموغلة في الألم هاجية عدوها.

آسفي القديمة والجديدة

تقودنا حكاية «خربوشة» إلى عمق تاريخ آسفي التي قيل عن اسمها حسب العديد من الاجتهادات البحثية، أنه يعني مصب النهر أو المنارة، معالم المدينة تشمل آثارا تؤكد العديد من البحوث التاريخية أنها تعود إلى العصر الفينيقي أو الروماني.
في عام 1480 أصبحت آسفي مركزًا تجاريًا مهمًا تحت السيطرة البرتغالية، ثم خضعت لحكم السعديين عام 1541 لتصبح ميناءً هامًا في التجارة بين أفريقيا وأوروبا.
وما يبدو منها اليوم هي معالم تاريخية تعود إلى فترة البرتغاليين الذين لم يدم مكوثهم بها إلا خمسين سنة، في القرن السادس عشر، ومن هذه المعالم نجد قصر البحر الذي شيد على شكل حصن مربع يطل على البحر وبناه البرتغاليون، وقصر السلطان، وهو عبارة عن قلعة التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر وربما الثالث عشر، في فترة الموحدين، ويطل على قصر البحر والمحيط الأطلسي، وفي سنة 1990 تحولت القلعة إلى متحف للخزف.
هكذا تفتح مدينة آسفي تاريخها مشرعا أمام الباحثين من دون عناء، كما تفتح مسالكها ودروبها وأحياءها أمام الزوار من السياح، الذين تقودهم خطواتهم من قصر البحر إلى عمق المدينة القديمة، حيث العبور بجانب الأسوار التي تحاذي طريق السوق، ثم الوصول إلى ساحة الاستقلال، وهنا يجد السائح ضالته في التسوق، فهي مركز تجاري بامتياز، تتوزع فيه المحلات التي تبيع منتجات من الصناعة التقليدية.
من هناك، يسير الزائر العاشق وحتى المتعجل، إلى المسجد الكبير، ومنه تفرع درب يوصل رأسا إلى الكنيسة البرتغالية التي شيدت سنة 1519 ميلادية في قلب الكاتدرائية العتيقة.
الخطوات تواصل مسيرها الحالم في بقاع تحمل عطر التاريخ، وفيها زقاق الحدادين الذي ينتهي بحي الخزف الهضبة، ذلك الحي الذي يمنح للزائر فرصة اكتشاف جميع مراحل صناعة الخزف الشهيرة بالمدينة من البداية بالتربة إلى العجين ثم التشكيل إلى أن تصبح الاواني مستعدة للزينة والبهجة المزركشة.
الجولة تستمر إلى «القشلة» القلعة بأبراجها، وحينها يجد السائح نفسه أمام المدينة برمتها في مشهد شامل، ثم الباب الأثري الضخم الذي يفضي إلى المشور وهي ساحة واسعة تجاور متحف الخزف، حيث شهرة المدينة من الأواني ذات اللون الأزرق والأشكال والأنواع مختلفة الأحجام والأغراض أيضا.

إيغود حيث أول إنسان عاقل

التاريخ في آسفي لا يتوقف نبضه عند ما ذكر، بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك، ونشير هنا إلى الحفريات في جبل إيغود الواقع شرق المدينة، حيث اكتشف في الموقع «بقايا عظمية يزيد عمرها على مئة ألف عام عن أي رفات أخرى معروفة للجنس البشري للإنسان العاقل، حيث أصبح عمر الإنسان الحالي 300 ألف سنة، بينما كان يعتقد سابقا أن عمره 195 ألف سنة اعتمادا على بقايا أومو في أثيوبيا.»
التعريف المذكور عن الحفريات ورد في إحدى الموسوعات الإلكترونية، وقد نال هذا الاكتشاف نصيبه الوافر من الدراسات والمقالات والتحليلات التي جعلت المغرب موطن أول إنسان عاقل ومدد عمره من 195 ألف عام إلى 300 ألف.
هذا الاكتشاف المذهل فصّل فيه خبراء التاريخ والحفريات ووردت أسماء وأوصاف علمية غاية في الغرائبية بالنسبة لنا نحن إنسان هذا العصر، لكن الأهم في هذا كله هي كون مدينة آسفي تغوص في عمق التاريخ الإنساني بل عمّرها الجد الأول العاقل للبشرية.

الوصول إلى البحر

الأكيد أن «حاضرة المحيط» كما وصفها ابن خلدون، لا يمكن المرور منها في جولة دون التملي في طلعة السمك البهية وهي تزين أطباقا وضعت بعناية على موائد المطاعم المنتشرة والتي تقدم الشواء البحري إن صح التعبير، بمعنى ان الوجبات عبارة عن سمك مشوي.
آسفي إلى جانب كونها مدينة الفخار بامتياز، فهي أيضا مدينة السمك دون منازع، ويعتبر قطاع الصيد البحري من أهم القطاعات بها مند عدة عقود ويتجاوز عدد المشتغلين به أزيد من 20 ألف عامل من الساكنة.
لم يكن التخصص هو الصيد فقط ومطاعم الشواء ورائحة الأطباق الشهية، بل صارت آسفي مدينة تصبير السمك كذلك، حيث تمتد على طول الطريق الشاطئية الرابطة بين مدينتي آسفي والصويرة العشرات من الوحدات الصناعية، التي تعتبر منتجاتها ذات جودة عالية والدليل هو تصدير جزء كبير منها إلى أوروبا وآسيا وعدد من الدول العربية، وحسب المعلومات المتوفرة فإن صناعة تصبير السمك بالمدينة نشأت منذ سنة 1930.
تلك المصانع المنتشرة على طول الطريق الساحلية للمدينة، تستمد بضاعتها من مراكب الصيد الحديثة التي تجاوزت الطرق التقليدية في صيد السمك وخاصة السردين المفضل لدى الموائد في أوروبا. إلى جانبها ما زالت المراكب التقليدية تقاوم وتواصل حياتها في البحر وتصطاد ما يسد حاجة الزائرين والسكان من سمك طازج بأنواعه المختلفة والكثيرة.

العودة إلى الخزف

تبقى صناعة الخزف السمة المميزة أكثر لمدينة آسفي، ولم يكن انتشار خبر تصنيف المدينة من قبل اليونسكو مجرد صدفة أو مزايدة، بل هو نابع من عمق الواقع الذي يقول إن المدينة يبدع صناعها التقليديون في ذلك، وتقدم للعالم أبهى وأجمل وأروع الأواني الخزفية التي يغلب عليها اللون الأزرق وهو امتداد لزرقة البحر بكل تأكيد.
هذه الصناعة التقليدية جعلت آسفي ذات شهرة عالمية، وأصبحت بفضلها تساهم في الرواج الاقتصادي والسياحي وفي التنمية بشكل عام.
وحتى لا نبقى غرباء عن هذه الصناعة بمدينة آسفي، نشير إلى انها تتمركز في حي هضبة الخزف ويشتغل فيه أكثر من 800 حرفي في 37 ورشة مجهزة بـ70 فرنًا تقليديًا، يضاف إليه أيضا حي الشعبة الذي أسس من أجل احتضان العدد المتزايد من حرفيي الخزف، حيث يوجد بها نحو 100 خزفي يمارسون عملهم في 74 ورشة مجهزة بـ130 فرنًا تقليديًا.
وبذلك تستحق آسفي لقبها كمدينة الخزف، كما تستحق لقب مدينة السمك، وأيضا موطن قبيلة عبدة وفن العيطة وتبرز ملامح خربوشة أيضا من بين ثنايا التاريخ الذي امتزج فيه القديم بالحديث، فأعطانا هذا الوجه البهي المطل على المحيط الأطلسي.

مشاركة
تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية) .